الأربعاء 22 شوّال 1445هـ 1 مايو 2024
موقع كلمة الإخباري
نظرية أجنحة الفراشة وعاقبة الأعمال
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 04 / 14
0

في منتصف القرن الماضي، تحديداً عام 1952، كتب الأديب الأمريكي (راي برادبوري) قصة شهيرة بعنوان (صوت الرعد)، تتحدث عن طفرة تكنلوجية كبيرة يشهدها العالم سنة 2055، لدرجة مكّنت البشرية من عبور أبواب الزمن إلى العصور الغابرة، فتعود مجموعة صيادين إلى عصر الديناصورات على أمل اصطياد التي ركس الشهير. 

ولكن عند عودة البعثة بعد أن باءت بالفشل يكتشفون التغيرات التي حدثت في عالمهم، لم يعد الناس يتصرفون بذات الطريقة أو يتحدثون ذات اللغة، بل وتغيرت القيادة السياسية في البلد، وبات كل شيء مختلفًا، وحينها يرفع أحدهم حذاءه ليكتشف أنه دهس عن غير قصد في رحلته فراشة كانت تعيش من ملايين السنين!

قد تبدو فكرة أن موت فراشة عتيقة قد يخلق فوارق زمنية تؤثر على لغة وطبائع الناس في المستقبل بمثابة خيال محض، ولكن الأديب برادبوري، بنبوغه الخيالي، لم يكن يجترح من فراغ. بل قد أثبت العلم فيما بعد صحة هذا الزعم، إذ اعتنق علماء الفيزياء مصطلح (تأثير الفراشة)، الذي يبرهن على الدور الجوهري للأحداث الصغيرة في تشكيل الواقع المحيط، في ظل نظرية الفوضى التي أسسها عالم الرياضيات والأرصاد، إدوارد لورنز. والذي استعمل بدوره مثال الفراشة أيضاً، مؤكداً أن رفرفة أجنحتها وإن لم يكن قادراً على إحداث إعصار، لكنه قادر على خلخلة الضغط الجوي ولو بنسبة ضئيلة، الأمر الذي يتسبب في تغيير مسار الإعصار. وهكذا، خلص لورنز إلى نتيجة مذهلة: الأحداث الصغيرة، التي قد تبدو تافهة، يمكن أن تولد تداعيات جمة في النظم المعقدة.

وكما يقال في الإنكليزية والألمانية: لعدم وجود مسمار ضاعت الحدوة، ولعدم وجود حدوة ضاع الحصان، ولعدم وجود الحصان ضاع فارسه، ولعدم وجود فارس هُزِموا في المعركة، ولعدم وجود معركة ضاعت المملكة، وكل ذلك بسبب الحاجة إلى مسمار حدوة الحصان.

الأمور الهامشية والبسيطة التي تصدر منّا أو من غيرنا، والتي قد لا تشكل في نظرنا قيمة ولا نرى لها تأثيراً، هي في الحقيقة ذات أثر كبير على مجمل حياتنا، ولنأخذ مثلاً قرآنياً، فلطالما تساءلتُ عن سبب قناعة الملك وموافقته المباشرة على تولي النبي يوسف عليه السلام خزائن الأرض، هذا المقام الخطير، الذي يمثل ثاني أكبر منصب في الدولة، فبمجرد أن قال له يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، يوسف: 55، وافق الملك بلا تردد؟

لكننا إذا راجعنا الأحداث التي مرت بيوسف عليه السلام، من حسد أخوته له، ورميه في البئر الى مجيئه مصر وبيعه في أسواقها ليشتريه عزيز مصر، ليكبر في داره وتهيم به زوجته عشقاً، وتحصل بعد ذلك الأحداث المعروفة، والتي أثبت من خلالها يوسف عليه السلام انه مثال النزاهة والعفة، نعلم يقيناً أنه لولا هذه الأحداث المترابطة وهذا السناريو المحبوك، لم يكن بالإمكان حصول قناعة الملك وإيمانه بحكمة يوسف ونزاهته، أما علمه وحكمته، فقد تبين ذلك للملك من خلال تعبيره للرؤية التي رآها، وتفسيره له، حين عجز عن ذلك كبار العلماء، وأما نزاهته، فقد بانت من خلال رفض يوسف الخروج من السجن حتى يرسل الملك في طلب النسوة اللاتي كن السبب في سجنه، والذي انتهى باعترافهن بذنبهن وبراءة يوسف من التهمة، فثبتت نزاهته وعفته، وقد وردت أحاديث جمة تردف عفة الفرج بعفة البطن، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: أحب العفاف إلى الله تعالى عفاف البطن والفرج. تنبيه الخواطر: ٢ / ٣٠.

وعن الإمام الباقر عليه السلام: ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج. الكافي: ٢ / ٧٩ / حديث رقم١. وعنه عليه السلام ايضاً لرجل قال له: إني ضعيف العمل قليل الصيام، ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالاً -: أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج؟! المصدر نفسه.

ثم لاحظ الأثر الذي ترتب على صيرورة يوسف عليه السلام عزيزاً لمصر، والتحول الديني العظيم في جميع مصر، من حاكمها الى أفراد الشعب، وانتقالهم من الوثنية الى التوحيد، وفي ظني أنه لولا ثورة ملوك طيبة المصريين على الهكسوس لبقيت مصر تنعم بظلال التوحيد، ولكن لله أمر هو بالغه.

فلاحظ أن كل حالٍ حكاه القرآن الكريم عن يوسف عليه السلام هو مجرد حالة شخصية لا ينتظر منها ـ بالنظر البدوي الساذج ـ أن يكون لها تأثراً كبيراً، ولكننا نجد هذا الحال كان سبباً في حصول حالٍ جديد، وهو بدوره سبب للحوادث اللاحقة وهكذا هي الأحداث عبارة عن سلسلة مترابطة.

فلا نستهين بالمعصية وإن كانت صغيرة، فالمؤكد أنها ستكون سبباً لزيادة استعدادنا لفعل معاصٍ أكبر، فهي الإناء لقادم الأفعال، والقالب لأرواحنا، قال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا.. الآية)، الأعراف: 58، ويقول السيد الطباطبائي في الميزان: «لكن الفاعل يلحقه أثر فعله الحسن أو السيء دائما من غير تخلف. فللمحسن نصيب من احسانه وللمسيء نصيب من إساءته، قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزال: 7 ـ 8»، ويقول مؤسس علم التحليل النفسي (كارل يونج): «أعمالنا وأفكارنا ونياتنا الخاطئة سوف ترد بانتقامها على أرواحنا في النهاية».

 ثم إننا إذا فعلنا فلا نزيد القلب ريناً، (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .. الآية)، الأسراء: 15، فقد نصل لدرجة لا يؤثر فينا حتى موعظة وبراهين الأنبياء، قال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، المطفيين، 13 ـ 14، وقال ايضاً: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، محمد: 22 ـ 24.

فلننتبه من نومة الغافلين، ونتدارك أنفسنا بالاستغفار والتوبة، فإنهما كفيلان لا برفع آثار الفعل فقط، بل بتغيير وانقلاب الآثار السيئة التي كانت مقدرة بسبب المعاصي الى آثار حسنة، قال تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، الفرقان: 70.



التعليقات