تشهد الولايات المتحدة تحوّلاً دينياً لافتاً تقوده الأجيال الشابة، يتمثل في ارتفاع كبير بنسبة الأميركيين غير المنتمين دينياً، بالتزامن مع إغلاق آلاف الكنائس في مختلف أنحاء البلاد، في تغير يُعد من الأسرع في تاريخ أميركا الحديث.
وتشير معطيات حديثة إلى أن هذا التحول لا يقتصر على تراجع الممارسات الدينية التقليدية، بل يعكس تغيّراً عميقاً في الهوية والقيم الاجتماعية، مع انعكاسات واسعة على المشهدين السياسي والأخلاقي داخل المجتمع الأميركي.
وتُظهر الأرقام أن ثلاثة من كل عشرة بالغين في الولايات المتحدة باتوا يعرّفون أنفسهم اليوم بأنهم غير منتمين دينياً، بنسبة بلغت 30%، مسجلة زيادة حادة خلال السنوات الأخيرة. ويُعد هذا التحول الأسرع من نوعه بين التحولات الدينية الكبرى في تاريخ البلاد المعاصر.
كما بيّنت الإحصاءات أن نحو 38% من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً لا ينتمون إلى أي مؤسسة دينية، في وقت نادراً ما يشارك أكثر من نصف السكان في الطقوس الدينية أو لا يشاركون فيها إطلاقاً، مقارنة بنسب أقل بكثير مطلع الألفية.
وفي مؤشر إضافي على هذا التراجع، يُتوقع إغلاق نحو 15 ألف كنيسة خلال العام الجاري، وهو رقم غير مسبوق، مقابل افتتاح عدد محدود جداً من الكنائس الجديدة، ما يعكس انكماش الدور المؤسسي للدين التقليدي.
سياسياً، فرض هذا التحول تحديات جديدة على الأحزاب والمرشحين، إذ بات الوصول إلى الناخب غير المنتمي دينياً أكثر كلفة وصعوبة، مع تراجع فاعلية الأساليب التقليدية التي كانت تعتمد على المؤسسات الدينية كقنوات للتواصل والحشد.
ويبرز هذا التغير أيضاً في الخريطة الحزبية، حيث لا يزال المسيحيون البيض يشكلون الأغلبية داخل الحزب الجمهوري، مقابل حضور قوي لغير المنتمين دينياً داخل الحزب الديمقراطي، ما يعمّق الانقسام القيمي بين التيارين السياسيين الرئيسيين.
ومع تراجع دور الكنيسة، تتجه أعداد متزايدة من الأميركيين إلى البحث عن بدائل للهوية الروحية خارج الإطار الديني التقليدي، تشمل تيارات فكرية وفلسفية متنوعة، إضافة إلى منصات رقمية وقنوات إلكترونية تقدم محتوى روحياً أو تأملياً يحظى بمتابعة واسعة.
كما برزت أدوات رقمية حديثة، من بينها تطبيقات وروبوتات محادثة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، باتت تؤدي أدواراً تتعلق بالإرشاد الروحي والتأمل والصلاة، في مشهد يعكس انتقال الروحانية من الفضاء المؤسسي إلى الفضاء الرقمي.
ورغم تداول بعض التقديرات عن احتمال حدوث صحوة دينية بين الأجيال الشابة، تؤكد المؤشرات الحالية أن هذا الاتجاه لا يزال محدوداً وغير كافٍ لعكس المسار العام لتراجع الانتماء الديني.
ومع هذا التحول المتسارع، تتراجع الخريطة الدينية التقليدية التي كانت الكنيسة في قلبها، لتحل محلها خريطة جديدة أكثر علمانية ولا مركزية، تتشكل تدريجياً داخل الفضاء الرقمي والثقافي الحديث، وسط توقعات بأن يكون لهذا التغيير أثر طويل الأمد على الهوية الأميركية ومشهدها السياسي والاجتماعي.
المحرر: حسين هادي